فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}.
هذه الآية تدل على أنهم افترقوا فرقتين؛ لأن الحق سبحانه مادام قد قال: {مِنْهُمْ} فهذا يعني أن بعضهم قالوا وفعلوا المطلوب، وبعضهم ظلموا وبدلوا القول، فقد أمرهم الحق أن يقولوا: {حطة} وطلب منهم أن يدخلوا سجدًا. والتغيير منهم جاء في القول؛ لأن القول قد يكون بين الإِنسان وبين نفسه بحيث لا يسمعه سواه. لكن الفعل مرئي مما يدل على أن بعضهم يرائي بعضًا، ففي القول أرادوا أن يهذروا ويتكلموا بما لا ينبغي ولا يليق، فبدلًا من أن يقولوا: حطة قالوا: حنطة استهزاءً بالكلمة.
وهكذا نرى أن التبديل جاء في القول، لكن الفعل لم يأت فيه كلام، وإن قال بعضهم: إن التبديل أيضًا حدث من بعضهم في الفعل. فبدلًا من أن يدخلوا ساجدين دخلوا زاحفين على مقعداتهم، كنوع من التعالي، لكن الحق لم يذكر شيئًا من ذلك؛ لأن سلوكهم في الفعل قد يكون السبب فيه أن بعضهم لا قدرة له على الفعل. {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ...} [الأعراف: 162].
وكأن الحق يذكرنا بما فعله معهم من رعايتهم في أثناء التيه وكيف ظلل عليهم الغمام وأنزل عليهم المن والسلوى، واستسقى لهم موسى فجاءت المياه. لكن غريزة التبديل والتمرد لم تغادرهم. وما داموا قد بدَّلوا في كلمات الله، فعليهم أن ينالوا العقاب: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السماء}.
وهناك آية ثانية في سورة البقرة يقول فيها الحق: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزًا مِّنَ السماء} [البقرة: 59]. والفارق بين الإِنزال وبين الإِرسال أن الإِنزال يكون مرة واحدة. أما الإِرسال فهو مسترسل ومتواصل. ولذلك يقول الحق سبحانه في المطر: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء مَاءً طَهُورًا}. لأن المطر لا ينزل طوال الوقت من السماء. لكن في الإِرسال استمرار، اللهم إلا بعضًا من تأثير الهواء. ولذلك يقول الحق: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ}. فالذي يحتاج إلى استمرارية في الفعل يقول فيه الحق: أرسل بدليل أن الله حينما أراد أن يجيء بالطوفان ليغرق المكذبين بموسى قال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان...} [الأعراف: 133].
وعندما أراد أن يرغب عادًا قوم سيدنا هود في الاستغفار والتوبة والرجوع عما كانوا عليه من الكفر والآثام قال لهم: {ويا قوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السماء عَلَيْكُمْ مِّدْرَارًا...} [هود: 52].
إذن فالإِرسال يعني التواصل، أما الإِنزال فهو لمرة واحدة، وأراد الحق سبحانه من قصة بني إسرائيل أن يأتي لنا بلقطة فجاء بكلمة {أنزلنا}، ولقطة أخرى جاء فيها ب {أرسلنا}؛ لأن العقوبة تختلف باختلاف المذنبين، والمذنبون مقولون بالتشكيك، فهذا له ذنب صغير، وآخر ذنبه أكبر، وكل إنسان يأخذ العذاب على قدر ذنبه؛ فمن أذنب ذنبًا صغيرًا أنزل الله عليه عقابًا على قدر ذنبه.
ومن تمادى أرسل الله عليه عذابًا يستمر على قدر ذنوبه الكبيرة.
وهنا يقول الحق: {... فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السماء بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ} [الأعراف: 162].
و{رجزًا} أي عذابًا، وهناك رِجْز، ورُجْز، والرِّجز يُولد من الرُّجز؛ وينشأ مثل قوله الحق: {والرجز فاهجر}. أي اهجر الرُّجز.. أي المآثم والمعاصي والذنوب لتسلم من الرِّجز.. أي من العذاب. وهنا يبين الحق أنهم تلقوا العذاب بسبب ظلمهم، وهناك في الآية الأخرى قال: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ}.
والفسق يسبق الظلم؛ لأن الإِنسان لا يمكن أن يظلم نفسه بمخالفة منهج إلا إذا فسق أولًا، ولذلك جاء الحق بالمسبَّب وجاء السبب، وهكذا نتأكد أن كل كلمة في القرآن جاءت لمعنى أساسي تؤديه ولا تكرار إلا لمجموع القصة في ذاتها، أما لقطات القصة هنا، ولقطات القصة هناك فأمور جاءت تأسيسًا في كل شيء لتعطي معاني ولقطات جديدة. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ}.
بَيَّنَ تَعَالَى فِي الِاسْتِطْرَادِ الْخَاصِّ بِنُبُوَّةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ صلى الله عليه وسلم كِتَابَةِ رَحْمَتِهِ لِلَّذِينِ يَتْبَعُونَهُ مِنْ قَوْمِ مُوسَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقَالَ فِي مُتَّبِعِيهِ: أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَيْ: دُونَ غَيْرِهِمْ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ، وَلَمْ يَتَّبِعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ بَعْدَ بَعْثَتِهِ وَبُلُوغِ دَعْوَتِهِ. وَذَلِكَ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْمُتَّبِعِينَ لِمُوسَى حَقَّ الِاتِّبَاعُ قَبْلَ بَعْثَتِهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى هُدًى وَحَقٍّ وَعَدْلٍ، وَأَنَّهُمْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، فَإِنَّ مَا أَفَادَتْهُ جُمْلَةُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ مِنَ الْحَصْرِ إِضَافِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ كَمَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، وَبَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ تِلْكَ الْآيَةِ؛ وَلِذَلِكَ بَيَّنَ سُبْحَانَهُ فِي هَذَا الْآيَةِ حَالَ خَوَاصِّ أَتْبَاعِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الَّذِينَ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لَهُ حَقَّ الِاتِّبَاعُ، عَاطِفًا إِيَّاهُمْ عَلَى الْمُهْتَدِينَ بِاتِّبَاعِ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: {وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} أَيْ: وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أَيْضًا جَمَاعَةٌ عَظِيمَةٌ يَهْدُونَ النَّاسَ بِالْحَقِّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، وَيَعْدِلُونَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِ إِذَا حَكَمُوا بَيْنَ النَّاسِ، لَا يَتَّبِعُونَ فِيهِ الْهَوَى، وَلَا يَأْكُلُونَ السُّحْتَ وَالرِّشَى. فَالظَّاهِرُ الْمُتَبَادِرُ أَنَّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ كَانُوا فِي عَصْرِهِ وَبَعْدَ عَصْرِهِ حَتَّى بَعْدَ مَا كَانَ مِنْ ضَيَاعِ أَصْلِ التَّوْرَاةَ ثُمَّ وُجُودِ النُّسْخَةِ الْمُحَرَّفَةِ بَعْدَ السَّبْيِ، فَإِنَّ الْأُمَمَ الْعَظِيمَةَ لَا تَخْلُو مِنْ أَهْلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ. وَهَذَا مِنْ بَيَانِ الْقُرْآنِ لِلْحَقَائِقِ، وَعَدْلِهِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأُمَمِ، كَقَوْلِهِ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا} (3: 75) وَقِيلَ فِي وَجْهِ التَّنَاسُبِ وَالِاتِّصَالِ: إِنَّهُ ذَكَرَ هَؤُلَاءِ مِنْ قَوْمِهِ فِي مُقَابِلِ مُتَّخِذِي الْعِجْلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا بَعْضَ قَوْمِهِ لَا كُلَّهُمْ، وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى بُعْدٍ يُقَدَّرُ بِقَدْرِ بُعْدِ هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ قِصَّةِ الْعِجْلِ، وَمَا قُلْنَاهُ أَظْهَرُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ قَوْلَهُ: {يَهْدُونَ} و{يَعْدِلُونَ} لِلْحَالِ الْمُفِيدِ الِاسْتِمْرَارِ قُلْنَا: إِنَّ أَمْثَالَهُ مِمَّا حَكَى فِيهِ حَالَ الْغَابِرِينَ وَحْدَهُمْ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ كَثِيرٌ، وَوَجْهُهُ أَنَّ التَّعْبِيرَ لِتَصْوِيرِ الْمَاضِي فِي صُورَةِ الْحَاضِرِ، وَمَا هُنَا يَشْمَلُ أَهْلَ الْحَقِّ مِنْ قَوْمِ مُوسَى إِلَى زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مِمَّنْ لَمْ تَكُنْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ خَاتَمِ النَّبِيِّينَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمُ الَّذِينَ كَانُوا كُلَّمَا بَلَغَتْ أَحَدًا مِنْهُمُ الدَّعْوَةُ قَبْلَهَا وَأَسْلَمَ، وَقَدْ وَرَدَ فِي وَصْفِهِمْ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ وَحَمَلَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي نُفَسِّرُهَا عَلَيْهِمْ وَحْدَهُمْ.
قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِهَؤُلَاءِ الْأُمَّةِ مَنْ آمَنَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَعَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَامٍ وَأَضْرَابِهِ. وَنَقُولُ: إِنَّهُ نَزَلَ فِي هَؤُلَاءِ آيَاتٌ صَرِيحَةٌ كَقَوْلِهِ فِي آخِرِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} (3: 199) وَهَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا لَيْسَتْ صَرِيحَةً فِي هَذَا، بَلِ السِّيَاقِ يُنَافِيهِ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بَعْدَ بَيَانِ حَالِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَالْمُتَبَادَرُ فِيهَا أَنَّهَا فِي خَوَاصِّ قَوْمِ مُوسَى فِي عَهْدِ مُوسَى، وَبَعْدَ عَهْدِهِ وَمِنْهُمُ النَّبِيُّونَ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْقُضَاةُ الْعَادِلُونَ، كَمَا يُعْلَمُ بِالْقَطْعِ مِنْ آيَاتٍ أُخْرَى. فَالْآيَاتُ فِي الْخِيَارِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ:
(1) الصَّرِيحَةُ فِي الَّذِينَ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَآمَنُوا قَبْلَ إِيمَانِهِمْ أَوْ بَعْدَهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} (2: 121) وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ} إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} (28: 52- 54) الْآيَاتِ وَمِثْلُهُنَّ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَالرَّعْدِ وَالْإِسْرَاءِ وَالْقَصَصِ وَالْعَنْكَبُوتِ إِلَخْ.
(2) الصَّرِيحَةُ فِيِ الَّذِينَ كَانُوا فِي عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَاسْتَقَامُوا مَعَهُ، ثُمَّ فِي عَهْدٍ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ إِلَى عَهْدِ الْبِعْثَةِ الْعَامَّةِ قَبْلَ بُلُوغِ دَعْوَتِهَا كَالْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِ تَفْسِيرِهَا.
(3) الْمُحْتَمِلَةُ لِلْقِسْمَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللهِ} (3: 113- 115) إِلَخْ فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهُنَّ [فِي ص58- 61 ج 4 ط الْهَيْئَةِ].
وَفِي تَفْسِيرِ الْأُمَّةِ هُنَا خُرَافَاتٌ إِسْرَائِيلِيَّةُ ذَكَرَ بَعْضَهَا ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ: بَلَغَنِي كَذَا، وَذَكَرَ أَنَّ سِبْطًا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَارُوا فِي نَفَقٍ مِنَ الْأَرْضِ فَخَرَجُوا مِنْ وَرَاءِ الصِّينِ إِلَخْ، وَذَكَرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَا يُؤَيِّدُ هَذَا بِدُونِ سَنَدٍ. وَابْنُ جَرِيجٍ عَلَى سِعَةِ عِلْمِهِ وَرِوَايَتِهِ وَعِبَادَتِهِ شَرُّ الْمُدَلِّسِينَ تَدْلِيسًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُدَلِّسُ عَنْ ثِقَةٍ، وَأَئِمَّةُ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ لَا يَعْتَدُّونَ بِشَيْءٍ يَرَوْنَهُ بِغَيْرِ تَحْدِيثٍ، وَنَقَلَ هَذِهِ الْخُرَافَةِ كَثِيرُونَ، وَزَادُوا فِيهَا مَا عَزَوْهُ إِلَى غَيْرِهِ أَيْضًا وَبَحَثُوا فِيهَا مَبَاحِثَ، وَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُحْكَى.
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ هَذَا سِيَاقٌ آخَرُ مِنْ أَخْبَارِ قَوْمِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ عُطِفَ عَلَى مَا قَبْلَهُ لِمُشَارَكَتِهِ إِيَّاهُ فِي كُلِّ مَا يَقْصِدُ بِهِ مِنَ الْعِظَاتِ وَالْعِبَرِ. قَالَ تَعَالَى: وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا أَيْ: وَفَرَّقْنَا قَوْمَ مُوسَى الَّذِينَ كَانَ مِنْهُمْ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ، وَمِنْهُمُ الظَّالِمُونَ وَالْفَاسِقُونَ كَمَا سَيَأْتِي بَعْدَ بِضْعِ آيَاتٍ- قَطَّعْنَاهُمْ فَجَعَلْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ قِطْعَةً، أَيْ فِرْقَةً تُسَمَّى أَسْبَاطًا، أَيْ أُمَمًا وَجَمَاعَاتٍ يَمْتَازُ كُلُّ مِنْهَا بِنِظَامٍ خَاصٍّ فِي مَعِيشَتِهِ وَبَعْضِ شُئُونِهِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا فِي مُشَارِبِ مَائِهِمْ. وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَعْنَى السِّبْطِ- بِكَسْرِ السِّينِ- أَنَّهُ وَلَدُ الْمَوْلُدِ مُطْلَقًا، وَقَدْ يُخَصُّ بِوَلَدِ الْبِنْتِ. وَأَسْبَاطُ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَلَائِلُ أَوْلَادِهِ الْعَشَرَةِ- أَيْ مَا عَدَا لَاوِي- وَسَلَائِلُ وَلَدَيِ ابْنِهِ يُوسُفَ وَهُمَا إفرايم ومنسى وَأَمَّا سُلَالَةُ لَاوِي فَنِيطَتْ بِهَا خِدْمَةُ الدِّينِ فِي جَمِيعِ الْأَسْبَاطِ، وَلَمْ تَجْعَلْ سِبْطًا مُسْتَقِلًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْصِيلُ ذَلِكَ فَالْأَسْبَاطُ بَيَانٌ لِلْفِرَقِ وَالْقِطَعِ الَّتِي هِيَ أَقْسَامُ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، كَمَا سُمِّيَتِ الْفِرَقُ فِي الْعَرَبِ بِالْقَبَائِلِ، وَالْأُمَمُ بَيَانٌ لِلْمُرَادِ مِنْ مَعْنَى الْأَسْبَاطِ الِاصْطِلَاحِيِّ. وَالْأُمَّةُ الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُؤَلِّفُ بَيْنَ أَفْرَادِهَا رَابِطَةٌ أَوْ مَصْلَحَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ نِظَامٌ وَاحِدٌ وَتَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ أَيْضًا.
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِثْلُ هَذَا مَعَ تَفْسِيرِهِ وَهُوَ: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (2: 60) فَأَفَادَ مَا هُنَا أَنَّ قَوْمَهُ اسْتَسْقَوْهُ، وَمَا هُنَاكَ أَنَّهُ اسْتَسْقَى رَبَّهُ لِقَوْمِهِ، وَكِلَاهُمَا قَدْ حَصَلَ. وَالِاسْتِسْقَاءُ طَلَبُ الْمَاءِ لِلسُّقْيَا، وَتَعْرِيفُ الْحَجَرِ فِي هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ الْمَكِّيَّةِ الْأَعْرَافِ وَالْمَدَنِيَّةِ الْبَقَرَةِ لِتَعْظِيمِ جُرْمِهِ، وَقَدْ عُبِّرَ عَنْهُ فِي التَّوْرَاةِ بِالصَّخْرِ- أَوْ تَعْظِيمِ شَأْنِهِ، أَوْ كِلَيْهِمَا، وَكَلَاهُمَا عَظِيمٌ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْعَهْدِ كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ عِبَارَةُ التَّوْرَاةِ، إِذْ عَيَّنَتْ مَكَانَهُ مِنْ جَبَلِ حوريت. وَالِانْبِجَاسُ وَالِانْفِجَارُ وَاحِدٌ يُقَالُ: بِجَسَهُ أَيْ فَتْحَهُ فَانْبَجَسَ وَبِجَّسَهُ بِالتَّشْدِيدِ فَتَبَجَّسَ، كَمَا يُقَالُ: فَجَّرَهُ كَنَصَرَهُ إِذَا شَقَّهُ فَانْفَجَرَ وَفَجَّرَهُ بِالتَّشْدِيدِ فَتَفَجَّرَ- وَزَعَمَ الطَّبَرْسِيُّ أَنَّ الِانْبِجَاسَ خُرُوجُ الْمَاءِ بِقِلَّةِ، وَالِانْفِجَارَ خُرُوجُهُ بِكَثْرَةٍ، وَأَنَّهُ عَبَّرَ بِهِمَا؛ لِإِفَادَةِ أَنَّهُ خَرَجَ أَوَّلًا قَلِيلًا ثُمَّ كَثُرَ. وَأَدَقُّ مِنْهُ قَوْلُ الرَّاغِبِ: الِانْبِجَاسُ أَكْثَرَ مَا يُقَالُ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ ضَيِّقٍ، وَالِانْفِجَارُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِ، وَفِيمَا يَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ وَاسِعٍ، فَاسْتَعْمَلَ حَيْثُ ضَاقَ الْمُخْرِجُ اللَّفْظَانِ- أَيْ وَهُوَ حَجْرُ مُوسَى.
وَقَالَ: {وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا} (18: 33) {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} (54: 12) وَلَمْ يَقِلْ بَجَّسْنَا اهـ.
أَقُولُ: وَلَكِنَّ رُوَاةَ اللُّغَةِ فَسَّرُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ، وَذَكَرُوا مِنَ الشَّوَاهِدِ عَلَيْهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْكَثْرَةِ. قَالَ فِي اللِّسَانِ: الْبَجْسُ انْشِقَاقٌ فِي قِرْبَةٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ أَرْضٍ يَنْبُعُ مِنْهُ الْمَاءُ فَإِنْ لَمْ يَنْبُعْ فَلَيْسَ بِانْبِجَاسٍ وَأَنْشَدَ:
وَكَيْفَ غَرَبِي دَالِجٍ تَبَجَّسَا

وَالسَّحَابُ يَتَبَجَّسُ بِالْمَطَرِ وَالِانْبِجَاسُ عَامٌّ، وَالنُّبُوعُ لِلْعَيْنِ خَاصَّةً، وَبَجَسْتَ الْمَاءَ فَانْبَجَسَ أَيْ فَجَّرْتَهُ فَانْفَجَرَ، وَبِجَّسَ بِنَفْسِهِ يُبَجِّسُ، يَتَعَدَّى وَلَا يَتَعَدَّى. وَسَحَابٌ بَجِسٌ، وَتَبَجَّسَ أَيِ انْفَجَرَ اهـ. وَفِي الْأَسَاسِ: انْبَجَسَ الْمَاءُ مِنَ السَّحَابِ وَالْعَيْنِ: انْفَجَرَ وَتَبَجَّسَ تَفَجَّرَ إِلَخْ... وَسَحَابٌ بَجِسٌ وَبَجَّسَهَا اللهُ. قَالَ ابْنُ مُقْبِلٍ:
لَهُ قَائِدٌ دُهْمُ الرَّبَابِ خَلْفَهُ ** رَوَايَا يُبَجِّسْنَ الْغَمَامَ الْكَنَهْوَرَا

وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى حِينَ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ فَاسْتَسْقَى رَبَّهُ لَهُمْ كَمَا فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ بِأَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَضَرَبَهُ فَنَبَعَتْ مِنْهُ عَقِبَ ضَرْبِهِ إِيَّاهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا مِنَ الْمَاءِ بِعَدَدِ أَسْبَاطِهِمْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ أَيْ: قَدْ عَرِفَ أُنَاسُ كُلِّ سِبْطٍ الْمَكَانَ الَّذِي يَشْرَبُونَ مِنْهُ إِذْ خُصَّ كُلٌّ مِنْهُمْ لَا يَأْخُذُ الْمَاءَ إِلَّا مِنْهَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ النِّظَامِ، وَاتِّقَاءِ ضَرَرِ الزِّحَامِ. وَفِي أَوَّلِ سِفْرِ الْعَدَدِ مِنَ التَّوْرَاةِ: أَنَّ عَدَدَ الرِّجَالِ الصَّالِحِينَ لِلْحَرْبِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يَزِيدُ عَلَى سِتِّمِائَةِ أَلْفٍ مِنِ ابْنِ عِشْرِينَ فَمَا فَوْقَهُ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ عَدَدُ الْجَمِيعِ رِجَالًا وَنِسَاءً وَأَطْفَالًا لَا يَقِلُّ عَنْ أَلْفَيْ أَلْفٍ مِلْيُونَيْنِ وَلِلْمُؤَرِّخِ النَّقَّادِ الْحَكِيمِ ابْنِ خَلْدُونَ تَشْكِيكٌ مَعْرُوفٌ فِيمَا قَالَهُ الْمُؤَرِّخُونَ تَبَعًا لِلتَّوْرَاةِ فِي كَثْرَةِ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَةٍ، فَصَّلَهَا فِي أَوَّلِ مُقَدَّمَةِ تَارِيخِهِ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ الشَّكُّ فِي أَنَّهُمْ كَانُوا أُلُوفًا كَثِيرَةً أَوْ عَشَرَاتِ الْأُلُوفِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ فِي سَيْنَاءَ مَوَارِدُ لِلْمَاءِ غَيْرَ تِلْكَ الْعُيُونِ الَّتِي انْفَجَرَتْ مِنْ صَخْرٍ فِي جَبَلِ حوريت مُتَّصِلٍ بِهِ، فَلابد أَنْ تَكُونَ مِسَاحَةُ ذَلِكَ الصَّخْرِ وَاسِعَةً جِدًّا، وَأَنْ يَكُونَ السَّهْلُ أَمَامَهُ أَفْسَحَ لِيَسَعَ الْأُلُوفَ مِنَ الْأَسْبَاطِ يَرِدُونَ وَيُصْدِرُونَ. وَقَدِ اخْتَلَفَ عُلَمَاءُ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي مَدْلُولِ لَفْظِ حوريت الَّذِي أَمَرَ اللهُ مُوسَى أَنْ يَذْهَبَ إِلَى صَخْرٍ فِيهِ فَيَجِدُهُ- أَيِّ الرَّبَّ- عِنْدَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَضْرِبَهُ بِعَصَاهُ فَيَنْفَجِرَ مِنْهُ الْمَاءُ، هَلْ هُوَ جَبَلُ سَيْنَاءَ نَفْسُهُ؟ أَمْ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ؟- وَيَزْعُمُ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ الصَّخْرُ الْمَذْكُورُ فِي الْوَادِي الَّذِي يُسَمَّى وَادِي اللجَاءِ وَيُعَيِّنُ بَعْضُ الرُّهْبَانِ مَكَانَهُ، وَلَا يَعْنِينَا شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ إِلَّا أَنَّنَا نَجْزِمُ بِأَنَّ مَا فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ عِنْدَنَا مِنْ صِفَةِ ذَلِكَ الْحَجَرِ وَحَجْمِهِ وَشَكْلِهِ كَكَوْنِهِ كَرَأْسِ الشَّاةِ أَوْ أَكْبَرَ، وَكَوْنِهِ يُوضَعُ فِي الْجَوَالِقِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى ثَوْرٍ أَوْ حِمَارٍ- كُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْخُرَافَاتِ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ الَّتِي كَانُوا يَتَلَقَّوْنَهَا بِالْقَبُولِ أَيُّهَا أَغْرَبُ. وَقَدْ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَلَى احْتِرَامِهِ كَثِيرًا مِنْهَا.